عن ابن عمر: “حَفِظْتُ عن النبي (صلى الله
عليه وسلم) عشرَ ركعات: ركعتين قبلَ الظُّهر، وركعتينِ بعدها، وركعتين
بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة
الصبح”.
السنن الرواتب
تحدثنا في الجزء الأول عن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) في أداء سنة الظهر والعصر.
وفي سنة المغرب سنتان، إحداهما: أنه لا يُفصل بينها وبين المغرب
بكلام، قال أحمد رحمه اللّه في رواية الميموني والمروزي: يستحب ألا يكون
قبل الركعتين بعد المغرب إلى أن يُصَلِّيَهما كلامٌ وقال الحسن بن محمد:
رأيت أحمد إذا سلم من صلاة المغرب، قام ولم يتكلم، ولم يركع في المسجد قبل
أن يدخل الدار، قال أبو حفص: ووجهه قول مكحول: قال رسول الله (صلى الله
عليه وسلم): ”مَن صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ قَبلَ أَنْ
يَتكَلَّمَ، رُفِعَتْ صَلاته فِي عِلِّيِّينَ”، ولأنه يتصل النفل بالفرض،
انتهى كلامه.
والسُنة الثانية: أن تُفعل في البيت، فقد روى النسائي، وأبو داود،
والتِّرمذي من حديث كعب بن عُجرة، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أتى مسجدَ
بني عبد الأشهل، فصلَّى فيه المغربَ، فلما قَضَوْا صَلاتهم رآهم
يُسَبِّحُونَ بعدها فقال: (هَذِهِ صَلاة الْبُيُوتِ). ورواه ابن
ماجه من حديث رافع بن خديج، وقال فيها: ”ارْكَعُوا هَاتَيْنِ
الرَكْعَتَيْنِ فِي بُيُوتِكُم”.
والمقصود، أن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم)، فعل عامة السنن والتطوع
في بيته كما في الصحيح عن ابن عمر: “حَفِظْتُ عن النبي (صلى الله عليه
وسلم) عشرَ ركعات: ركعتين قبلَ الظُّهر، وركعتينِ بعدها، وركعتين بعد
المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح”.
وعن عائشة (رضي اللّه عنها) قالت: “كان النبي (صلى الله عليه وسلم)
يُصلي في بيتي أربعاً قبل الظهر، ثم يخرج فيُصلي بالناس، ثم يدخُل فيُصلي
ركعتين، وكان يُصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيُصلي ركعتين، ويُصلي، بالناس
العشاء، ثم يدخل بيتي فيُصلي ركعتين.” (رواه مسلم)، وكذلك المحفوظ عنه في
سنة الفجر، إنما كان يُصليها في بيته كما قالت حفصة وفي (الصحيحين) عن
ابن عمر، أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يُصلي ركعتينِ بعد الجُمُعة في بيته
وسيأتي الكلام على ذكر سنة الجمعة بعدها والصلاة قبلَها، عند ذكر هديه في
الجمعة إن شاء اللّه تعالى، وهو مُوافِق لقوله في: ”أَيُّهَا النَّاسُ
صَلُّوا في بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاَةِ المَرْءِ في بَيْتِه
إِلاَّ المَكْتُوبَةَ”.
وكان هديُ النبي (صلى الله عليه وسلم) فعلَ السنن، والتطوع في البيت
إِلا لِعارض، كما أن هديَه كان فِعلَ الفرائض في المسجد إِلا لِعارض من
سفر، أو مرض، أو غيره مما يمنعُه من المسجد، وكان تعاهده ومحافظته على سنة
الفجر أشدَّ مِن جميع النوافل.
ولذلك لم يكن يدعُها هي والوترَ سفراً وحضراً، وكان في السفر يُواظب على
سنة الفجر والوتر أشدَّ مِن جميع النوافل دون سائر السنن، ولم يُنقل عنه
في السفر أنه (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى سنة راتبة غيرَهما، ولذلك كان
ابن عمر لا يزيد على ركعتين ويقول: سافرتُ مع رسول اللّه (صلى الله عليه
وسلم)، ومع أبي بكر، وعمر (رضي اللّه عنهما)، فكانوا لا يزيدون في السفر
على ركعتين، وهذا وإن احتمل أنهم لم يكونوا يربِّعون، إلا أنهم لم يُصلوا
السنة، لكن قد ثبت عن ابن عمر أنه سئل عن سنة الظهر في السفر، فقال: لو
كنتُ مُسَبِّحا لأتممتُ، وهذا من فقهه (رضي اللّه عنه)، فإن اللّه سُبحانه
وتعالى خفَّف عن المسافر في الرباعية شطرَها، فلو شرع له الركعتانِ قبلها
أو بعدها، لكان الإِتمام أولى به.
وقد اختلف الفقهاءُ: أيُّ الصلاتين آكدُ، سنة الفجر أو الوتر؟
قولين: ولا يمكن الترجيحُ باختلاف الفقهاء في وجوب الوتر، فقد اختلفوا
أيضاً في وجوب سنة الفجر، وسمعت شيخَ الإِسلام ابن تيمية يقول: سنة الفجر
تجري مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته. ولذلك كان النبي (صلى الله عليه
وسلم) يصلي سنة الفجر والوتر بسورتي الإِخلاص، وهما الجامعتان لتوحيدِ
العلم والعمل، وتوحيدِ المعرفة والإِرادة، وتوحيدِ الاعتقادِ والقصد،
انتهى.
فسورة ”قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد”: متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة،
وما يجب إثباته للرَب تعالى من الأَحَدِيَّةِ المنافية لمطلق المشاركة
بوجه من الوجوه، والصمديَّة المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها
نقصّ بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوزام الصمدية، وغناه
وَأَحَديَّته ونفي الكفء المتضمِّن لخفي التشبيه والتمثيل والتنظير، فتضمنت
هذه السورة إثباتَ كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفيَ إثبات شبيه أو مثيل
له في كماله، ونفي مطلق الشريك عنه، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي
والاعتقاد في الذي يُباين صاحبُه جميعَ فرق الضلال والشرك، ولذلك كانت
تَعْدِل ثلثَ القرآن، فإن القرآن مدارُه على الخبر والإِنشاء، والإِنشاء
ثلاثة: أمر، ونهي، وإباحة. والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى
وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه. فأخلصت سورة ”قل هو الله أحد”
الخبرَ عنه، وعن أسمائه، وِصفاته، فعدلت ثلثَ القرآن، وخلَّصت قارئها
المؤمنَ بها من الشرك العلمى.
كما خلَّصت سورة “قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون” من الشرك العملي
الإِرادي القصدي. ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامُه وقائدُه وسائقُه،
والحاكُم عليه ومنزله منازِله، كانت سورة “قُل هُوَ اللَّهُ أَحَد”
تعدِل ثلثَ القرآن. والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر، و”قل يا
أيها الكافرون”، تعدِل ربع القرآن، والحديث بذلك في الترمذي من رواية ابن
عباس (رضي اللّه عنهما) يرفعه: ”إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ
القُرآنِ، وَقُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، تَعدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، وَقُلْ
يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ.” (رواه الحاكم
في المستدرك وقال: صحيح الإِسناد).
ولما كان الشرك العملي الإِرادي أغلبَ على النفوس لأجل متابعتها هواها،
وكثيرٌ منها ترتكبه مع علمها بمضرَّته وبطلانِه، لِمَا لهَا فيه من نيل
الأغراض، وإزالتُه، وقلعُه منها أصعبُ، وأشدّ من قلع الشرك العلمي وإزالته،
لأن هذا يزول بالعلم والحُجَّة، ولا يمكن صاحبُه أن يعلم الشيء على غير ما
هو عليه، بخلاف شرك الإِرادة والقصد، فإن صاحبه يرتكِب ما يدله العلم على
بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه، واستيلاء سُلطان الشهوة والغضب على نفسه،
فجاء من التأكيد والتكرار في سورة “قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون”
المتضمنة لإِزالة الشرك العملي، ما لم يجىء مثلُه في سورة ”قُل هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ”، ولما كان القرآن شطرين: شطراً في الدنيا وأحكامِها،
ومتعلقاتِها، والأمورِ الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها، وشطراً في
الآخرة وما يقع فيها، وكانت سورة “إِذَا زُلْزِلَتْ” قد أُخْلِصت من
أولها وآخرها لهذا الشطر، فلم يذكر فيها إلا الآخرة. وما يكون فيها من
أحوال الأرض وسُكَّانها، كانت تَعدِلُ نصفَ القرآن، فأحرى بهذا الحديث أن
يكون صحيحاً – واللّه أعلم – ولهذا كان يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي
الطواف، ولأنهما سورتا الإِخلاص والتوحيد، كان يفتتح بهما عمل النهار،
ويختمها بهما، ويقرأ بهما في الحج الذي هو شعار التوحيد.
إرسال تعليق