0
عن ابن عمر قال‏:‏ “‏حَفِظْتُ مِن النبي (صلى الله عليه وسلم) عشرَ ركعات‏:‏ ركعتين قبل الظُّهرِ، وركعتين بعدَها وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتينِ بعد العشاء في بيته، وركعتينِ قبلَ الصُّبح”.

 السنن الرواتب

كان (صلى الله عليه وسلم) يُحافظ على عشر ركعات في الحضر دائماً، وهى التي قال فيها ابن عمر‏:‏ “‏حَفِظْتُ مِن النبي (صلى الله عليه وسلم) عشرَ ركعات‏:‏ ركعتين قبل الظُّهرِ، وركعتين بعدَها وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتينِ بعد العشاء في بيته، وركعتينِ قبلَ الصُّبح‏” ‏(رواه البخاري).

فهذه لم يكن يدعُها في الحضر أبدًا، ولما فاتته الركعتانِ بعد الظهر قضاهما بعد العصر، وداوم عليهما، لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عَمِلَ عَملاً أثبته، وقضاء‏.‏ السنن الرواتب في أوقات النهى عام له ولأمته، وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي، فمختص به كما سيأتي تقريرُ ذلك في ذكر خصائصه إن شاء الله تعالى‏.‏ وكان يُصلِّي أحياناً قبلَ الظهر أربعاً، فعن عائشة (رضي اللّه عنها) أنه (صلى الله عليه وسلم)‏:‏ ‏”‏كَانَ لاَ يَدَعُ أَرْبَعاً قَبْلَ الظُّهْر، وركعتين قبل الغداة‏” (رواه البخاري).

فَإِمَّا أن يُقال‏:‏ إنه (صلى الله عليه وسلم) كان إذا صلَّى في بيته صَلّى أربعاً، وإذا صلَّى في المسجد صلَّى ركعتين، وهذا أظهر، وإِمَّا أن يُقال‏:‏ كان يفعلُ هذا، ويفعل هذا، فحكى كلٌّ عن عائشة وابن عمر ما شاهده، والحديثان صحيحان لا مطعن في واحد منهما‏.‏ وقد يُقال‏:‏ إن هذه الأربعَ لم تكن سنةَ الظهر، بل هي صلاةٌ مستقِلة كان يصليها بعد الزوال، كما ذكره الإِمام أحمد عن عبد اللّه بن السائب، أن رسولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كان يُصلي أربعاً بعد أن تزولَ الشمس، وقال‏:‏ ‏”‏إنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالح‏”.

وفي السنن أيضاً عن عائشةَ (رضي اللّه عنها)‏:‏ ‏”‏أن رسولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)، كان إذا لم يُصلِّ أربعاً قبل الظهر، صلاهُنَّ بعدها‏.”

وقال ابن ماجه‏:‏ ‏”‏كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربعُ قبل الظهر، صلاَّها بعد الركعتين بعد الظهر.”‏ وفي التِّرمذي عن علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) قال‏:‏ ‏”كان رسولُ اللَّهِ (صلى الله عليه) وسلم يصلي أربعاً قبل الظهر، وبعدها ركعتين‏‏‏.”

‏وذكر ابن ماجه أيضاً عن عائشة‏:‏ “كانَ رسولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ‏يصلي أربعاً قبل الظهر، يطيل فِيهِنَّ القِيام، ويحسن فيهن الركوعَ والسجود‏.”

فهذه -واللّه أعلم- هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن وأما سنةُ الظهر، فالركعتان اللتانِ قال عبدُ اللّه بن عمر، يُوضح ذلك أن سائرَ الصلواتِ سنتُها ركعتانِ ركعتانِ، والفجرِ جمع كونها ركعتين، والناس في وقتها أفرغُ ما يكونون، ومع هذا سنتُها ركعتانِ، وعلى هذا، فتكونُ هذه الأربعُ التي قبل الظهر وِرداً مُستقِلاً سببُه انتصافُ النهار وزوالُ الشمس وكان عبدُ اللَّهِ بنُ مسعود يُصلي بعد الزوال ثمانَ ركعات، ويقول‏:‏ إنَّهنَّ يَعْدِلْنَ بمثلهن مِن قيامِ الليل وسِرُّ هذا – واللّه أعلم – أن انتصافَ النهار مقابِل لانتصاف الليل، وأبوابُ السماء تُفتح بعد زوال الشمس، ويحصلُ النزول الإلهِي بعد انتصاف الليل، فهما وقتا قرب ورحمة، هذا تُفتح فيه أبوابُ السماء، وهذا ينزِل فيه الربُّ تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا‏.‏

وعن أمِّ حبيبة قالت‏:‏ سمعتُ رسولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يقول‏:‏ “‏مَنْ صَلَّى في يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَة، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْت في الجَنَةِ‏.” وزاد النسائي والترمذي فيه‏:‏ ‏”‏أَرْبَعاً قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بعدها، وركعتينِ بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر.”‏ قال النسائي‏:‏ ‏”‏وركعتين قبل العصر‏” ‏(‏بدل‏)‏ ‏(‏وركعتين بعد العشاء‏)‏ وصححه الترمذي.

وذكر ابن ماجه عن عائشة ترفعه‏:‏ “‏مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةَ مِنْ السُّنَّةِ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ‏:‏ أَرْبعاً قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَها، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ‏‏‏.”‏ وذكر أيضاً عن أبي هُرَيْرة، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) نحوه وقال‏:‏ ‏(‏ركعتينِ قبل الفجر، وركعتينِ قبل الظهر، وركعتينِ بعدها، وركعتينِ أظنه قال‏:‏ قبل العصر، وركعتينِ بعد المغرب أظنه قال‏:‏ وركعتينِ بعد العشاء الآخرة‏.”

وأما الأربع قبل العصر، فلم يصحَّ عنه عليه السلام في فعلها شيء إلا حديثُ عاصم بن ضمرة عن علي الحديث الطويل، أنه (صلى الله عليه وسلم)‏:‏ ‏”‏كان يُصلي في النهار ستة عشر ركعة، يُصلي إذا كانت الشمس من هاهنا كَهَيْئَتِهَا من هاهنا لصلاة الظهر أربعَ ركعات، وكان يُصلِّي قبل الظهر أربعَ ركعات، وبعد الظهر ركعتين، وقبل العصر أربعَ ركعات‏.” وفي لفظ‏:‏ كان إذا زالتِ الشمس مِن هاهنا كَهَيْئَتِهَا من هاهنا عند العصر، صلَّى ركعتين، وإذا كانت الشمسُ من هاهنا كَهَيْئَتِهَا من هاهنا عند الظهر، صلَّى أربعاً، ويُصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعاً، ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين”‏.

وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يُنكر هذا الحديث ويدفعه جداً، ويقول‏:‏ إنه موضوع‏.‏ ويذكر عن أبي إسحاق الجُوزجاني إنكاره‏.‏ وقد روى أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال‏:‏ ‏”‏رَحِمَ اللَّهُ امرءاً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعاً‏‏‏”. وقد اختلف في هذا الحديث، فصححه ابن حبان، وعلله غيرُه، قال ابنُ أبي حاتم‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سألت أبا الوليد الطيالسي عن حديث محمد بن مسلم بن المثنى عن أبيه عن ابن عمر، عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم)‏:‏ “‏رَحِمَ اللَّهُ امرءاً صَلًى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبعاً‏‏‏.‏”  فقال‏:‏ دع هذا‏.‏ فقلت‏:‏ إن أبا داود قد رواه، فقال‏:‏ قال أبو الوليد‏:‏ كان ابن عمر يقول‏:‏ ‏”‏حفظتُ عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرَ ركعاتٍ في اليوم والليلة.‏”، فلو كان هذا لعدَّه‏.‏ قال أبي‏:‏ كان يقول‏:‏ ‏”‏حَفِظَتُ ثنتي عشرةَ ركعةَ‏.‏” وهذا ليس بعلة أصلاً فإن ابن عمر إنما أخبر بما حفظه من فعل النبي (صلى الله عليه وسلم)، لم يُخبر عن غير ذلك،‏.‏ تنافي بين الحديثين البتة‏.‏

وأما الركعتان قبل المغرب، فإنه لم يُنقل عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يُصليهما، و عنه أنه أَقرَّ أصحابه عليهما، وكان يراهم يصلونهما، فلم يأمرهم ولم ينههم، فعن عبد اللّه المُزني، عن النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) أنه قال‏:‏ ‏”‏صلُوا قَبْلَ المَغْرِبِ صلُّوا قَبلَ المَغْرِبِ‏. قال في الثَّالِثَةِ‏:‏ ‏‏لِمَنْ شَاءَ كَرَاهَةَ أن يتخذها الناسُ سنة‏.” (رواه البخاري ومسلم)‏ وهذا هو الصوابُ في هاتين الركعتين، أنهما مُسْتَحبَّتَانِ مندوبٌ إليهما، وليستا راتبة كسائر السنن الرواتب‏.‏

وكان يُصلي عامةَ السنن، والتطوع الذي لا سبب له في بيته، لا سيما المغرب، فإنه لم يُنقل عنه أنه فعلها في المسجد البتة‏.‏

وقال الإِمام أحمد في رواية حنبل‏:‏ السنة أن يُصليَ الرجلُ الركعتينِ‏.‏ المغرب في بيته، كذا رُويَ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه‏.‏ قال السائب بن يزيد‏:‏ رأيتُ الناس في زمن عمر بن الخطاب، إذا انصرفوا من المغرب، انصرفوا‏.‏ حتى لا يَبقى في المسجد أحد، كأنهم لا يُصلون بعد المغرب حتى يصيروا إلى أهليهم انتهى كلامه‏.‏ فإن صلَّى الركعتين في المسجد، فهل يجزئ عنه، وتقع موقعها‏؟‏ اختلف قولُه، فروى عنه ابنُه عبد اللّه أنه قال‏:‏ بلغني عن رجل سماه أنه قال‏:‏ لو أن رجلاً صلَّى الركعتين بعد المغرب في المسجد ما أجزأه‏؟‏ فقال‏:‏ ما أحسنَ ما قال هذا الرجلُ، وما أجودَ ما انتزع، قال أبو حفص‏:‏ ووجهه أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذه الصلاة في البيوت‏.‏ وقال المروزي‏:‏ من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد يكون عاصياً، قال‏:‏ ما أعرف هذا، قلتُ له‏:‏ يُحكى عن أبي ثور أنه قال‏:‏ هو عاص‏.‏ قال‏:‏ لعله ذهب إلى قول النبي (صلى الله عليه وسلم)‏:‏ “‏اجْعَلُوهَا فِي بُيُوتِكُمْ‏‏‏‏”. قال أبو حفص‏:‏ ووجهُه أنه لو صَلَّى الفرضَ في البيت، وترك المسجد، أجزأه، فكذلك السنة انتهى كلامه وليس هذا وجهَه عند أحمد رحمه اللّه، وانما وجهُه أن السنن لا يُشترط لها مكان معين، ولا جماعة، فيجوزُ فعلها في البيت والمسجد، واللّه أعلم‏.‏

_________________________

المصدر: كتاب زاد الميعاد لللإمام ابن القيم.

إرسال تعليق

 
Top