إعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عُيون
المحبين، ولذة أرواح الموحدين، وبستان العابدين ولذة نفوس الخاشعين، ومحك
أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمةُ الله المهداة إلى عباده
المؤمنين.
هداهم إليها، وعرَّفهم بها، وأهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين،
رحمة بهم، وإكراما لهم، لينالوا بها شرف كرامته، والفوز بقربه لا لحاجة منه
إليهم، بل منَّة منه، وتفضَّلا عليهم، وتعبد بها قلوبهم وجوارحهم جميعا،
وجل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين وأعظمهما؛ وهو إقباله على ربه
سبحانه، وفرحه وتلذذه بقربه، وتنعمه بحبه، وابتهاجه بالقيام بين يديه،
وانصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميله
عبوديته ظاهرًا وباطنًا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه.
ولما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة وأشباهها من داخل فيه وخارج عنه،
اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان
والتحف والخلع والعطايا، ودعاه إليها كل يوم خمس مرات، وجعل في كل لون من
ألوان تلك المأدبة، لذة ومنفعة ومصلحة ووقارًا لهذا العبد، الذي قد دعاه
إلى تلك المأدبة ليست في اللون الآخر، لتكمل لذة عبده في كلِ لون من ألوان
العبودية ويُكرمه بكل صنفٍ من أصناف الكرامة، ويكون كل فعل من أفعال تلك
العبودية مُكفرا لمذموم كان يكرهه بإزائه، ويثيبه عليه نورًا خاصًا، فإن
الصلاة نور وقوة في قلبه وجوارحه وسعة في رزقه، ومحبة في العباد له، وإن
الملائكة لتفرح وكذلك بقاع الأرض، وجبالها وأشجارها، وأنهارها تكون له
نورًا وثوابًا خاصًا يوم لقائه.
فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وأرواه، وخلع عليه بخلع القبول،
وأغناه، وذلكَ أن قلبه كان قبل أن يأتي هذه المأدبة، قد ناله من الجوع
والقحط والجدب والظمأ والعري والسقم ما ناله، فصدر من عنده وقد أغناه
وأعطاه من الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه.
ولما كانت الجدُوب متتابعة على القلوب، وقحطُ النفوس متواليًا عليها، جدد
له الدعوة آلة هذه المأدبة، وقتًا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال
مُستسقيًا، طالبًا إلى من بيده غيثُ القلوب، وسَقيُها مستمطرًا سحائب رحمته
لئلا يَيبس ما أنبتته له تلك الرحمة من نبات الإيمان، وكلأ الإحسان وعشبه
وثماره، ولئلا تنقطع مادة النبات من الروح والقلب، فلا يزال القلب في
استسقاء واستمطار هكذا دائمًا، يشكو إلى ربه جدبه، وقحطه، وضرورته إلى
سُقيا رحمته، وغيث بره، فهذا دأب العبد أيام حياته.
فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة، فالغفلة هي قحط القلوب وجلبها، وما دام
العبد في ذكر الله والإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل عليه كالمطر المتدارك،
فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة، فإذا تمكنت الغفلة منه،
واستحكمت صارت أرضه خرابًا ميتة، وسنته جرداء يابسة، وحريق الشهوات يعمل
فيها من كل جانب كالسَّمائم.
فتصير أرضه بورًا بعد أن كانت مخصبة بأنواع النبات، والثمار وغيرها، وإذا
تدارك عليه غيث الرحمة اهتزت أرض إيمانه وأعماله وربت، وأنبتت من كل زوج
بهيج، فإذا ناله القحط والجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها وخضرتها ولينها
وثمارها من الماء، فإذا منعت من الماء يبسَت عروقها وذبلت أغصانها، وحُبست
ثمارها، وربما يبست الأغصان والشجرة، فإذا مددت منها غصنًا إلى نفسك لم
يمتد، ولم ينْقَد لك، وانكسر، فحينئذ تقتضي حِكمة قيم البستان قَطع تلك
الشجرة وجعلَها وقودًا للنار.
إرسال تعليق