بثت القناة الثانية المغربية أمس الخميس 16 فبراير حلقة جديدة من برنامج "تحقيق" والتي تناولت ظاهرة غريبة على المجتمع المغربي على اعتبار انتمائه الإسلامي والعربي. إنها ظاهرة التخلي عن الآباء والأمهات المسنين ووضعهم في الخيريات ودور الرعاية بهده الفئة.
لقد كشفت لنا هذه الحلقة من هذا البرنامج، الذي أعتبره من حسنات دوزيم القليلة، عن آباء وأمهات تقدمت بهم السنون وتخلى عنهم أبناؤهم فوجدوا أنفسهم حبيسي هذه الدور التي رغم ما تحمله من أسماء جميلة، دار رعاية المسنين مثلا، إلا أنها بالنسبة لهم سجن بأسوار وساحة شاسعة لانتظار الموت إلى أن يجود به القدر...مشاهد لمسنين بلغوا من العمر عتيا وتكالبت عليهم الأمراض من كل صوب، وبدل أن يجدوا أبناءهم إلى جانبهم يرعوهم ويحنون عليهم، رموهم كما ترمى آلة انتهت صلاحيتها في الخوردة...
إن كل من شاهد الحلقة لابد سيشعر بالحزن والأسى العميقين. ولا شك سيشفق على حال هؤلاء، ولأشفق على نفسه أيضا لعدة أسباب:
الأول، أن كل واحد منا، صغيرا كان أو كبيرا، لابد أن ينتهي به الحال شيخا عاجزا، إن أطال الله العمر من طبيعة الحال، وليس منا، في اعتقادي، من سيرضى لنفسه بوضع كهذا، منسيا في بقعة للغربة في آخر محطات الحياة ...
الثاني، أن الظاهرة تعبر عن مدى الانهيار الذي شهدته مجموعة من القيم الإنسانية خصوصا منها قيمة التضامن والتكافل الاجتماعي التي انصرمت من العلائق الاجتماعية وانحنت أمام جبروت الانغماس المهول في الحياة الاستهلاكية النفعية. والغريب أن هذا يحدث في مجتمع يدين بدين حنيف يدعوا إلى التكافل والتضامن ويلح على العلائق الاجتماعية المتكاملة. فإذا كان هذا حال الأبناء مع الآباء، فكيف سيكون حالهم مع باقي أقربائهم وجيرانهم وباقي أفراد المجتمع الواحد؟؟ والحقيقة أنه إذا كانت علاقة الأبناء مع أشخاص آخرين أمتن من العلاقة مع من تربطهم بهم رابطة الدم ، فلا شك أنها تدخل في سياق "النفاق الاجتماعي" بما يحقق منفعة ما وستنكشف حقيقتها عند أول امتحان عسير...
الثالث، أنها تعكس نكران الجميل الذي أصبح يميز معظم أبناء وبنات هذا الزمان الذين يبدوا أنهم تأثروا بالمفهوم الغربي للأسرة والذي يقتصر على الرجل والزوجة والأبناء ولا يتعداهم إلى الآباء والأمهات... فالذي يجب على هؤلاء أن يعلموه، وهم يعلمونه علم اليقين، أن الأم هي من حملتهم في رحمها تسعة أشهر تأكل ليأكلوا وتشرب ليشربوا، وترضعهم حولين كاملين، وتمسح برازهم لعدة مرات في اليوم دون تأفف، وعندما يصرخوا وهم أطفال يطير النوم من عينيها ويقفز قلبها خوفا عليهم فهم فلذات كبدها، تتعب في ما تعده لهم طعام وشراب، تبدل لهم ثيابهم عدة مرات في اليوم، تفرش لهم الفراش الوثير وتغطيهم وتحميهم من ضربات البرد وتعتني بهم.. إذا ضحكوا لا تسع الدنيا كلها فرحها وإذا بكوا فجعت وانكسر فؤادها... أما إذا مات أحدهم أو فقد فلا أحدثك عن سوء حالتها وعن الدموع التي لا تفارق مقلتيها وما ترسمه على خذيها من خطوط سوداء.. شاهد حلقة من حلقات برنامج "مختفون" وتأمل الأمهات اللواتي يقفن أمام الكاميرا بلون وجوههن الشاحب ولا يستطعن إكمال كلماتهن القليلة حتى تغلب عليهن الدموع... وأما الأب فيكد ويجتهد طيلة اليوم ليوفر لهم المأكل والمشرب واللباس، ويضيف جرعة حنان إلى جرعات الوالدة، ويرافقهم في محطات الحياة.. يكبرون أمامهما ويكبر فيهما الأمل في رؤية أبنائهم وبناتهم في أحسن حال وصورة.. يزوجانهم ويفرحان بهم أشد ما تكون الفرحة حتى ينعما برؤية أحفادهم ويعتنيان بهم أيضا لأنهم جزء من جزء من كبديهما...
وبعد كل هذا، يكبر الابن وتتمدد جثته وينبت له شاربه، فيتزوج بامرأة بدل أن تعيد له صوابه وتعينه في الابتعاد عن طريق سخط الوالدين، تدفعه دفعة قوية إلى النار، فيقذف بوالديه إلى دار العجزة كما يقذف الفرناتشي الحطب في النار ضاربا عرض الحائط كل جميلهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال أحد الصحابة لعمر بن الخطاب رضي الله عنها، وهو يحمل، أي الصحابي، أمه فوق دهره ويطوف بها على الكعبة: "هل وفيتها حقها" فقال رضوان الله عليه: "لا. حملتها وأنت لها كاره، وحملتك وهي عنك راضية". واشتكت امرأة إلى شيخ ابنها الذي تخلى عنها بعد زواجه ، ويا ليته توقف عند ذلك بل ويوجه لها رسائل مسمومة من مثل (لن تريني حتى أموت). فلما سألها الشيخ عن المطلوب منه أجابت: أدع الله أن يهديه ويرد به إلى الطريق القويم. سبحان الذي أودع في قلب الأم رحمة لا تنقضي...
الرابع، أن ما يقع الآن من مثل هذه المشاكل الاجتماعية وهذه الظواهر الخطيرة على بنيان وتمساك المجتمعات لا شك سيتضاعف في السنين المقبلة مما يستلزم علينا البحث في حلول سريعة لها، حتى لا يتحول مجتمعنا إلى مشاكل بالجملة كالتي يفضحها لنا برنامج "الخيط البيض" فيضحك علينا العادي والبادي..
في اعتقادي دور المسنين أو دور رعاية العجزة أو أي اسم آخر ليست الحل بل هي جزء من الحل. وأقصد هنا المسنين الذين ليس لهم أبناء أو بنات أو أقارب وانتهى بهم الحال وحيدين بدون معيل ولا كفيل. في هذه الحالة يكون من اللازم إنشاء مؤسسات تعتني بهم وترعاهم إلى أن يسلموا الروح إلى بارئها.. بل الحل في دراسة كيفية إرجاع الدفء إلى العلاقات الأسرية والمجتمعية، ولما لا تخصيص صندوق يدعم الأبناء والأمهات الذين يحتفظون بآبائهم وأمهاتهم ويحيطونهم بالرعاية اللازمة.
وقبل هذا وذاك، لابد من إعادة الاعتبار إلى التربية الأخلاقية على قيمنا الدينية، خصوصا منها قيم التضامن والتكافل والرحمة... لأنه متى عادت هذه القيم عادت المياه إلى مجاريها واختفت مشاكل اجتماعية كثيرة. ثم أخيرا وليس آخرا، هي مسؤولية فردية لكل ابن أو بنت اتجاه والديه سيحاسب عليها غدا يوم القيامة لأن الجنة تحت أقدام الأمهات ومن عاق والديه فقد خسر خسرانا كبيرا. وقد سمعتم ماذا قالت أحد النساء المسنات بالدار: "أنا ساخطة على ولادي دنيا وأخرى" وقالت أخرى: "أنا عندي بنت وحدة أو رماتني لزنقة. أنا مابغيت نشوفها لا فالدنيا ولا فالآخرة". أعوذ بالله من سخط الوالدين الذي يوجب سخط الله.
إرسال تعليق